[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائية السورية روزا ياسين حسن
الكتابة كمهنة، لا يمكن للكاتب الاستغناء عنها، أو كجزء جوهري من روحه، ستعمل على تكثيف فاعليته في كل الظروف، حتى لو اختار سبلًا أخرى للفاعلية! هذه الفاعلية اللغوية هي طريقه للمواجهة أو ربما للالتفاف، هي ذاته، وجوده، وهي أسلحته التي يحمي بها ذاته، بالدرجة الأولى، من التبدّد في العدم، قبل أن يكون هناك غايات أخرى لكتابته.
الرواية صوت الضعف لا القوة، مانيفست المهزومين لا المنتصرين، تاريخ الناس السرّي غير الرسمي، ذاك الذي لا تعيره البروبوغندات الإعلامية اهتمامًا، وحافظة الحكاية من النسيان كنقش الحجر.
من هنا فالكتابة في زمن الموت والخراب جزء أساسي من مواجهة هذا الموت والخراب، بعبارة أخرى بناء مقابل الهدم، وخلق حياة في مواجهة الموت.
الحرب التي تجرف في طريقها كل تفاصيل الإنسان، ستقابلها الرواية في حفظ هذه التفاصيل. الحرب التي تعيد إلى الواجهة الغرائز الأولى للإنسان، ستواجهها الرواية في نبش معنى الحياة السامي. فمن ذا الذي قال إن الرواية ينبغي أن تماثل الخراب لترتقي إلى تأثيره، أو لتشابه سطوته الوحشية! هذه ليست وظيفتها ولا يمكنها أن تكون. هناك تناقض أساسي بين الحرب أو سطوة السياسة الآنية، وبين الرواية وحفرها المديد وتأثيرها التراكمي غير الآني. هي هذا الأنين الخافت الذي يصدره جسد عالق بين الأنقاض، أنين طفل من الجوع أو القهر، شهيق معتقل يتعرّض للتعذيب، ونواح أم ثكلى. هي صوت يُنقش في عمق الزمن ولا يمكنه أن يتبدد، الأصوات لا تتبدّد في الكون، وسيأتي يوم وتُسمع، حتى لو كان ضجيج الحرب طاغيًا الآن. حين تصمت الحرب، ولا بد لها أن تصمت، سيعود ذلك الصوت الخافت للرواية ليعلو ويصل العالم.
من هنا فأنا لا أفضّل أن أخلق تعريفًا ثابتًا ومصمتًا للرواية، لقد أتت قدرتها على الاستمرار عبر الوقت من براغماتيتها العالية حدّ الانتهازية، ومرونتها ونزوعها إلى الانفلات الحرّ من القوانين والقواعد. لكني أقتنع بأن على الكاتب واجبًا إنسانيًا، يتمثّل في تنصرّه ببساطة للحياة، للعدالة، للحب، للحرية، ولكل القيم التي تجعل الإنسانية تستحق اسمها. لكن هذا لا يكون فقط بالكتابة المباشرة عن الواقع، من قال إن الكتابة عن "غير الواقع" ليست واقعًا! كل ما يكتبه الكاتب يجول في رأسه، في تخييله، وهذا التخييل هو جملة من القناعات والأفكار والأحداث والتجارب والأشخاص والمشاعر، مصهورة ببعضها ومنكّهة ببهاراته الخاصة، لكنها في النهاية مصنوعة من واقعه، الحقيقي أو التخييلي أو حتى الافتراضي إن شئنا. حتى حين لا يكتب الكاتب عن الواقع المباشر فهو يكتب عنه بشكل من الأشكال، أو يتأثّر به حدّ الفجيعة. والحدث الثوري غيّر فينا كثيرًا، غيّرنا كلنا. بالنسبة لي كان كمسّ السحر، لن نعود بعده كما كنا قبلًا. هو بالتأكيد جعل مارد الحرية يخرج غاضبًا، كان أشبه بانفجار على كافة الصعد ومنها المنطقة الإبداعية، لكنه خلق أيضًا حواجز أخرى وقيودًا، على الكاتب أن يصرّ دومًا على استخدام عينه الناقدة الثاقبة كي ينبشها ولا ينساق وراءها. العين الناقدة صفة الإبداع، وإلا سيتحوّل الكاتب إلى بوق أيديولوجي. فكما كان من واجبه، بإعتقادي، أن يقف ضد الطغيان وهمجيّته، متنصرًا للمضطهدين والمظلومين، مدافعًا عن حق الشعوب في الحرية والكرامة، عليه أن يكمل مسيرته المعارضة للسائد والمطلق ولسطوة القوي والمنتصر، أيًا كان هذا القوي المنتصر. الكاتب المبدع يحمل قلب عاشق، عين نسر، وإحساس فراشة.
أما المقولة التي ترى بأن الأدب الجيد لا يكتب في الأوقات الصعبة، فلا أتفق معها ببساطة، الأمر أعقد من ذلك بكثير. في الرواية المهم كيف تكتب، الطريقة التي تحكي الحكاية بها هي التي تحمل الحكاية إلى مصافي الرواية. من الطبيعي أن يتأثّر الكاتب، بوصفه إنسانًا، وينفعل، بل وقد ينجرّ لينخرط فكريًا بين الجموع، وهذا قد يؤثر سلبًا على الرؤية النقدية للرواية صحيح، لكن في الجهة المقابلة توثيق اللحظة الإنسانية يكون أكثر حرارة وصدقًا في لحظة الانفعال، وتفوح رائحة الدم وأصوات الآهات من بين السطور، تمامًا كمن يكتب بدمّه. إذًا الأمر نسبي. الكتابة تحت سطوة الحدث توثّق التفاصيل، تلك التي تصنع جمال الصنعة الأدبية، توثّق المشاعر والأحاسيس والانفعالات، والكتابة بعد فترة من الكمون ترى المشهد بشكل أعم، أبعد وأكثر موضوعية، وربما التفتت أكثر للتقنيات. إذًا للنوعين جمالهما وضرورتهما في التاريخ الإبداعي. من كل التجارب الإبداعية عبر التاريخ البشري، تلك التي كُتبت في زمن الهزات الكبرى، بقيت أعمال خالدة نقرؤها إلى يومنا هذا، كما رُميت أعمال كذلك إلى النسيان. الأمر يعتمد على الصنعة الروائية ومدى إتقانها. وأنا أرى بأن هناك أعمالًا أدبية كُتبت وتكتب اليوم في خضم الكارثة السورية ستبقى لتقرأها الأجيال القادمة، وهناك أعمال ستنتهي مع انتهاء مأساتنا وربما قبلها، لتأتي أعمال جديدة مختلفة ومغايرة تمامًا. لندع إذًا كل نص روائي يقرر بنفسه ما إذا كان باقيًا في ذاكرتنا أم أنه سيزول عبر الزمن.
*************
روزا ياسين حسن في سطور:
كاتبة وروائية سورية من مواليد 1974، تقيم منذ العام 2012 في ألمانيا.
خريجة كلية الهندسة المعمارية سنة 1998.
عملت كصحفية وكاتبة في عدد من الصحف والمجلات السورية واللبنانية والعربية.
صدر لها: "سماء ملوثة بالضوء"، (مجموعة قصصية)، دار الكنوز الأدبية – بيروت 2000. ورواية "أبنوس"، وزارة الثقافة، دمشق 2004، نالت عليها جائزة "حنا مينة للرواية الشابة" في سوريا.
ثم أصدرت روايتها "نيغاتيف"، (رواية توثيقية: من ذاكرة المعتقلات السياسيات)، مركز القاهرة لحقوق الإنسان، القاهرة 2007.
وترشحت روايتها الثالثة: "حرّاس الهواء"، دار الريس- بيروت 2009، للقائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية 2010.
وفي العام 2011 أصدرت روزا روايتها الرابعة: "بروفا"، دار الكوكب/ الريّس، بيروت. ويرى النقاد أن الساردة في هذ الرواية "أصرّت على تحطيم السجون الروحية المتمثلة في مركزية الصوت الواحد، مستخدمةً بوليفونيا السرد كتقنية لا شريك لها للخوض في بنى مجتمعات تقشّر جلدها القديم، لاهثةً وراء فضح المسكوت عنه".
ومؤخرًا صدر لها رواية "الذين مسهم السحر"، دار الجمل – بيروت/ كولونيا 2016.
والرواية التي تحمل عنوانًا فرعيًا "من شظايا الحكايات"، هي حكاية عن سوريا في الفترة الممتدة بين العامين 2011 و2013، تحاول فيها روزا، عبر مزاوجة التخييلي بالوثائقي، قراءة المجتمع السوري الملوّن والمتعدّد عبر قصّ حكايات الناس العاديين، ورصد تفاصيل عيشهم وحيواتهم الداخلية ومشاعرهم واصطفافاتهم، وتغيّرها عبر الزمن وتطوّر الأحداث. كما تحاول أن تتلمّس الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من خراب ودمار وتشريد وقتل، عبر توثيق الكثير من التفاصيل، منذ اندلاع الثورة وتصاعد عنف النظام وحتى تراجع المجموعات الديمقراطية المعارضة، وكذلك المجموعات الدينية المعتدلة، لصالح سيطرة التطرّف وسيادة لغة الكره والعنف من كل الأطراف؟!.
و-بحسب النقاد- فإن "حسن"، "التي مسّها السحر بدورها، راحت تبحث عن خلاصها الروائي بتقنية مختلفة، إذ لم تعد الرواية بشكلها المألوف قادرة على تخفيف السحر، وفي الوقت ذاته، لا يمكن الروائي أن يجد خلاصه، إلا في الكتابة. هذا ما يستشفّه القارئ من روايتها الدسمة. هي رواية دسمة حقًا، تمتلئ بأسماء وأحداث وأمكنة، لكنها لا تُشبع نهم القارئ الذي ينتظر الاطّلاع على رواية تنقسم بطريقة مألوفة أو تقليدية، إلى حكاية وشخوص وتسلسل. فروزا مهتمة باللهاث خلف الجميع، محاولة اقتناص اللقطة كما هي، بطزاجتها، برائحة الدم والعرق والحب والعنف وكل ما فيها من مباغتات، للانتقال إلى لقطة أخرى، مليئة أيضًا بإرباكاتها وتناقضاتها، فتبدو قاطعة للقطة التي قبلها، وهي في العمق، متمّمة لها، لأن المشهد السوري الحقيقي اليوم هو كذلك: متعدد، متقاطع، متشظّ، متناقض .. لا يمكن رصده في صيغة واحدة".
ترجمت بعض كتابات روزا ياسين حسن إلى الفرنسية والألمانية. وكان أن رُشحت في العام 2013 للقائمة القصيرة لجائزة "فريدريش روكرت" الألمانية مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين هم: سمر يزك وفواز حدّاد ونهاد سيريس، وقد حاز الأخير الجائزة.